فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ}
قال الزمخشري: كانوا يقترحون عليه آيات تعنتًا لا استرشاد، لأنهم لو كانوا مسترشدين لكانت آية واحدة مما جاء به كافية في رشادهم.
ومن اقتراحاتهم: لولا أنزل عليه كنز، أو جاء معه ملك، وكانوا لا يعتدون بالقرآن، ويتهاونون به وبغيره مما جاء به من البينات، فكان يضيق صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه، فحرك الله منه وهيجه لأداء الرسالة وطرح المبالاة بردهم واستهزائهم واقتراحهم بقوله: فلعلك تارك بعض ما يوحي إليك أي: لعلك تترك أن تلقيه إليهم، وتبلغه إياهم مخافة ردهم وتهاونهم به، وضائق به صدرك بأنْ تتلو عليهم أن يقولوا مخافة أن يقولوا: لولا أنزل عليه كنز، هلا أنزل عليه ما اقترحنا نحن من الكنز والملائكة، ولم ينزل عليه ما لا نريده ولا نقترحه.
ثم قال: إنما أنت نذير أي: ليس عليك إلا أن تنذرهم بما أوحي إليك، وتبلغهم ما أمرت بتبليغه، ولا عليك ردّوا أو تهاونوا أو اقترحوا، والله على كل شيء وكيل يحفظ ما يقولون، وهو فاعل بهم ما يجب أن يفعل، فتوكل عليه، وكل أمرك إليه.
وقال ابن عطية: سبب نزول هذه الآية أن كفار قريش قالوا: يا محمد لو تركت سب آلهتنا وتسفيه آبائنا لجالسناك واتبعناك، وقالوا: إئت بقرآن غير هذا أو بدله، ونحو هذا من الأقوال، فخاطب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على هذه الصورة من المخاطبة، وقفه بها توقيفًا رادًّا على أقوالهم، ومبطلًا لها.
وليس المعنى أنه عليه السلام هم بشيء من ذلك ثم خرج عنه، فإنه لم يرد قط ترك شيء مما أوحي إليه، ولا ضاق صدره به، وإنما كان يضيق صدره بأقوالهم وأفعالهم وبعدهم عن الإيمان.
ولعلك هاهنا بمعنى التوقيف والتقرير، وما يوحي إليه هو القرآن والشريعة والدعاء إلى الله كان في ذلك سب آلهتهم، وتسفيه آبائهم أو غيره.
ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد عظم عليه ما يلقى من الشدة، فمال إلى أن يكون من الله إذن في مساهلة الكفار بعض المساهلة، ونحو هذا من الاعتقادات التي تليق به صلى الله عليه وسلم كما جاءت آيات الموادعة.
وعبر بضائق دون ضيق للمناسبة في اللفظ مع تارك، وإن كان ضيق أكثر استعمالًا، لأنه وصف لازم، وضائق وصف عارض.
وقال الزمخشري: فإن قلت: لم عدل عن ضيق إلى ضائق؟ قلت: ليدل على أن ضيق عارض غير ثابت، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفسح الناس صدرًا.
ومثله قولك: سيد وجواد، تريد السيادة والجود الثابتين المستقرين، فإذا أردت الحدوث قلت: سائد وجائد انتهى.
وليس هذا الحكم مختصًا بهذه الألفاظ، بل كل ما يبنى من الثلاثي للثبوت والاستقرار على غير وزن فاعل رد إليه إذا أريد معنى الحدوث، فنقول: حاسن من حسن، وثاقل من ثقل، وفارح من فرح، وسامن من سمن، وقال بعض اللصوص يصف السجن ومن سجن فيه:
بمنزلة أما اللئيم فسامن بها ** وكرام الناس باد شحوبها

والظاهر عود الضمير في به على بعض.
وقيل: على ما، وقيل: على التبليغ، وقيل: على التكذيب، قيل ولعل هنا للاستفهام بمعنى هل، والمعنى: هل أنت تارك ما فيه تسفيه أحلامهم وسب آلهتهم كما سألوك؟ وقدروا كراهته أن يقولوا، ولئلا يقولوا، وبأن يقولوا، ثلاثة أقوال.
والكنز المال الكثير.
وقالوا: أنزل، ولم يقولوا أعطى، لأن مرادهم التعجيز، وأنهم التمسوا أن ينزل عليه من السماء كنز على خلاف العادة، فإنّ الكنوز إنما تكون في الأرض.
وطلبهم آية تضطر إلى الإيمان، والله عز وجل لم يبعث الأنبياء بآيات اضطرار، إنما بعثهم بآيات النظر والاستدلال، ولم يجعل آية الاضطرار إلا للأمة التي أراد تعذيبها لكفرها بعد آية الاستدلال، كالناقة لثمود، وآنسه تعالى بقوله؛ إنما أنت نذير، أي: الذي فوض إليك هو النذارة لا تحصيل هدايتهم، فإن ذلك إنما هو لله تعالى.
وقال مقاتل: وقيل: كافل بالمصالح قادر عليها.
وقال ابن عطية: المحصي لإيمان من شاء، وكفر من شاء.
قيل: وهذه الآية منسوخة، وقيل: محكمة. اهـ.

.قال أبو السعود:

{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ} من البينات الدالةِ على حقية نبوَّتِك المناديةِ بكونها من عند الله عز وجل لمن له أُذنٌ واعية: {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} أي عارضٌ لك ضِيقُ صَدرٍ بتلاوته عليهم وتبليغِه إليهم في أثناء الدعوةِ والمُحاجّة: {أَن يَقُولُواْ} لأن يقولوا تعامِيًا عن تلك البراهينِ التي لا تكاد تخفى صحّتُها على أحد ممن له أدنى بصيرةٍ، وتماديًا في العِناد على وجه الاقتراح: {لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ} مالٌ خطيرٌ مخزونٌ يدل على صدقه: {أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ} يصدّقه. قيل: قاله عبدُ اللَّه بنُ أميةَ المخزوميُّ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رؤساءَ مكةَ قالوا: يا محمد اجعل لنا جبالَ مكةَ ذهبًا إن كنت رسولًا، وقال آخرون: ائتِنا بالملائكة يشهدوا بنبوتك فقال: {لا أقدِر على ذلك} فنزلت فكأنه عليه الصلاة والسلام لما عاين اجتراءَهم على اقتراح مثلِ هذه العظائمِ، غيرَ قانعين بالبينات الباهرةِ التي كانت تَضْطرّهم إلى القَبول لو كانوا من أرباب العقولِ وشاهدَ ركوبَهم من المكابرة مَتنَ كلِّ صَعْبٍ وذَلولٍ مسارعين إلى المقابلة بالتكذيب والاستهزاءِ وتسميتِها سحرًا مُثّل حالُه عليه الصلاة والسلام بحال من يُتوقّع منه أن يضيقَ صدرُه بتلاوة تلك الآيات الساطعةِ عليهم وتبليغِها إليهم فحُمل على الحذر منه بما في لعل من الإشفاق فقيل: {إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ} ليس عليك إلا الإنذارُ بما أوحي إليك غيرَ مبالٍ بما صدر عنهم من الرد والقَبولِ: {والله على كُلّ شَئ وَكِيلٌ} يحفَظ أحوالَك وأحوالَهم فتوكلْ عليه في جميع أمورِك فإنه فاعلٌ بهم ما يليق بحالهم، والاقتصار على النذير في أقصى غايةٍ من إصابة المَحزّ. اهـ.

.قال الألوسي:

{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ} أي تترك تبليغ بعض ما يوحى إليك وهو ما يخالف رأي المشركين مخافة ردهم واستهزائهم به، فاسم الفاعل للمستقبل ولذا عمل، ولعل للترجي وهو يقتضي التوقع ولا يلزم من توقع الشيء وقوعه ولا ترجح وقوعه لجواز أن يوجد ما يمنع منه، فلا يشكل بأن توقع ترك التبليغ منه صلى الله عليه وسلم مما لا يليق بمقام النبوة، والمانع من ذلك فيه عليه الصلاة والسلام عصمته كسائر الرسل الكرام عليهم السلام عن كتم الوحي المأمور بتبليغه والخيانة فيه وتركه تقية، والمقصود من ذلك تحريضه صلى الله عليه وسلم وتهييج داعيته لأداء الرسالة، ويقال نحو ذلك في كل توقع نظير هذا التوقع، وقيل: إن التوقع تارة يكون للمتكلم وهو الأصل لأن المعاني الإنشانئية قائمة به، وتارة للمخاطب، وأخرى لغيره ممن له تعلق وملابسة به، ويحتمل أن يراد هنا هذا الأخير ويجعل التوقع للكفار، والمعنى أنك بلغ بك الجهد في تبليغهم ما أوحى إليك أنهم يتوقعون منك ترك التبليغ لبعضه، وقيل: إن لعل هنا ليست للترجي بل هي للتبعيد، وقد تستعمل لذلك كما تقول العرب: لعلك تفعل كذا لمن لا يقدر عليه، فالمعنى لا تترك، وقيل: إنها للاستفهام الإنكاري كما في الحديث: «لعلنا أعجلناك» واختار السمين وغيره كونها للترجي بالنسبة إلى المخاطب على ما علمت آنفًا، ولا يجوز أن يكون المعنى كأني بك ستترك بعض ما أوحى إليك مما شق عليك بإذني ووحي مني، وهو أن يرخص لك فيه كأمر الواحد بمقاومة عشرة إذ أمروا بمقاومة الواحد لاثنين وغير ذلك من التخفيفات لأنه وإن زال به الإشكال إلا أن قوله تعالى بعد أن يقولوا يأباه، نعم قيل: لو أريد ترك الجدال بالقرآن إلى الجلاد والضرب والطعان لأن هذه السورة مكية نازلة قبل الأمر بالقتال صح لكن في الكشف بعد كلام: إعلم لو أخذت التأمل لاستبان لك أن مبنى هذا السورة الكريمة على إرشاده تعالى كبرياؤه نبيه صلى الله عليه وسلم إلى كيفية الدعوة من مفتتحها إلى مختتمها وإلى ما يعتري لمن تصدى لهذه الرتبة السنية من الشدائد واحتماله لما يترتب عليه في الدارين من العوائد لا على التسلي له عليه الصلاة والسلام فإنه لا يطابق المقام، وانظر إلى الخاتمة الجامعة أعني قوله سبحانه: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] تقض العجب وهو يبعد هذه الإرادة إن قلنا: إن ذلك من باب التخفيف المؤذن بالتسلي فتأمله، والضمير في قوله سبحانه: {وَضَائِقٌ بِهِ} لما يوحي أن للبعض وهو الظاهر عند أبي حيان، وقيل: للتبليغ أو للتكذيب، وقيل: هو مبهم يفسره أن يقولوا، والواو للعطف: {وَضَائِقٌ} قيل: عطف على: {تَارِكٌ} وقوله تعالى: {صَدْرَكَ} فاعله، وجوز أن يكون الوصف خبرًا مقدمًا و: {صَدْرَكَ} مبتدأ والجملة معطوفة على: {تَارِكٌ}، وقيل: يتعين أن تكون الواو للحال، والجملة بعدها حالية لأن هذا واقع لا متوقع فلا يصح العطف، ونظر فيه بأن ضيق صدره عليه الصلاة والسلام بذلك إن حمل على ظاهره ليس بواقع، وإنما يضيق صدره الشريف لما يعرض له في تبليغه من الشدائد، وعدل عن ضيق الصفة المشبهة إلى ضائق اسم الفاعل ليدل على أن الضيق مما يعرض له صلى الله عليه وسلم أحيانًا، وكذا كل صفة مشبهة إذا قصد بها الحدوث تحول إلى فاعل فتقول في سيد وجواد وسمين مثلًا: سائد وجائد وسامن، وعلى ذلك قول بعض اللصوص يصف السجن ومن سجن فيه:
بمنزلة أما اللئيم فسامن ** بها وكرام الناس باد شحوبها

وظاهر كلام البحر أن ذلك مقيس فكل ما يبنى من الثلاثي للثبوت والاستقرار على غير وزن فاعل يرد إليه إن أريد معنى الحدوث من غير توقف على سماع، وقيل: إن العدول لمشاركة: {تَارِكٌ} وليس بذلك.
{أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ} أي مال كثير، وعبروا بالإنزال دون الإعطاء لأن مرادهم التعجيز بكون ذلك على خلاف العادة لأن الكنوز إنما تكون في الأرض ولا تنزل من السماء، ويحتمل أنهم أرادوا بالإنزال الإعطاء من دون سبب عادي كما يشير إليه سبب النزول أي لولا أعطى ذلك ليتحقق عندنا صدقه.
{أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ} يصدقه لنصدقه، روي أنهم قالوا: اجعل لنا جبال مكة ذهبًا أو ائتنا بملائكة يشهدون بنبوتك إن كنت رسولًا فنزلت، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن كلًا من القولين قالته طائفة فقال عليه الصلاة والسلام: لا أقدر على ذلك فنزلت، وقيل: القائل لكل عبد الله بن أمية المخزومي، ووجه الجمع عليه يعلم مما مر غير مرة، ومحل: {أَن يَقُولُواْ} نصب أو جر وكان الأصل كراهة أو مخافة: {أَن يَقُولُواْ} أو لئلا أو لأن أو بأن يقولوا، ولوقوع القول قالوا: إن المضارع بمعنى الماضي، و: {إن} المصدرية خارجة عن مقتضاها، ورجحوا تقدير الكراهة على المخافة لذلك، وقد يراد عند تقديرها مخافة أن يكرروا هذا القول؛ واختار بعض أن يكون المعنى على الجميع أن يقولوا مثل قولهم لولا إلخ فإن على مقتضاها، ولا يرد شيء: {إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ} أي ليس عليك إلا الإنذار بما أوحى غير مبال بما يصدر عنهم: {والله على كُلّ شَئ وَكِيلٌ} أي قائم به وحافظ له فيحفظ أحوالك وأحوالهم فتوكل عليه في جميع أمورك فإنه فاعل بهم ما يليق بحالهم، والاقتصار على النذير في أقصى غاية من إصابة المحز، والآية قيل: منسوخة، وقيل: محكمة. اهـ.

.قال القاسمي:

{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} أي: بتلاوته عليهم، وتبليغه إليهم: {أَن يَقُولُواْ} أي: مخافة أن يقولوا، تعاميًا عن تلك البراهين التي لا تكاد تخفى صحتها على أحد ممن له أدنى بصيرة، وتماديًا في العناد على وجه الاقتراح.
{لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ} أي: هلا أنزل عليه ما اقترحنا من الكنز والملائكة، زعمًا أن الرسول متبوع، لابد له من الإنفاق على أتباعه، ولا يتأتى مع عدم سلطنته إلا بإلقاء الكنز عليه، أو مجيء ملك معه يصدق برسالته، فقال تعالى: {إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ} أي: ليس عليك إلا الإنذار بما أوحي إليك، غير مبال بما صدر منهم من الاقتراح: {وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} أي: فيحفظ ما يقولون ويجازيهم عليه، فكل أمرك إليه، وبلغ وحيه بقلب منشرح، غير مبال بهم.
لطائف:
الأولى:
قال القاشاني: لما لم يقبلوا كلامه صلى الله عليه وسلم بالإرادة، وأنكروا قوله بالاقتراحات الفاسدة، وقوله بالعناد والاستهزاء، ضاق صدره، ولم ينبسط للكلام، إذ الإرادة تجذب الكلام، وقبول المستمع يزيد نشاط المتكلم، ويوجب بسطه فيه، وإذا لم يجد المتكلم محلًا قابلًا لم يتسهل له، وبقي كربًا عنده، فشجعه الله تعالى بذلك، وهيج قوته ونشاطه بقوله: {إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ}، فلا يخلو إنذارك من إحدى الفائدتين: إما رفع الحجاب أن ينجع فيمن وفقه الله تعالى لذلك، وإما إلزام الحجة لمن لم يوفق لذلك، ثم كل الهداية إليه.
الثانية:
لا يخفى أن (لعل) للترجي، وهو وإن اقتضى التوقع، إلا أنه لا يلزم من توقع الشيء وقوعه، ولا ترجح وقوعه؛ لوجود ما يمنع منه وتوقع ما لا يقع منه، المقصود تحريضه على تركه، وتهييج داعيته. وقيل: (لعل) هنا للتبعيد لا للترجي، فإنها تستعمل كذلك، كما تقول العرب: لعلك تفعل كذا، لمن لا يقدر عليه. فالمعنى: لا تترك.
وقيل: إنها للاستفهام الإنكاري، كما في الحديث: «لعلنا أعجلناك».
وقيل: هي لتوقع الكفار، فكما تكون لتوقع المتكلم، وهو الأصل؛ لأن معاني الإنشاءات قائمة به تكون لتوقع المخاطب أو غيره، ممن له ملابسة بمعناه كما هنا. فالمعنى: إنك بلغت الجهد في تبليغهم أنهم يتوقعون منك ترك التبليغ لبعضه- كذا في العناية.
الثالثة:
إنما عدل عن (ضيق) الصفة المشبهة إلى (ضائق) اسم الفاعل؛ ليدل على أنه ضيق عارض، غير ثابت؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفسح الناس صدرًا. وكذا كل صفة مشبهة إذا قصد بها الحدوث تحول إلى فاعل، فيقولون في سيد: سائد، وفي جواد: جائد، وفي سمين: سامن، قال:
بمنزلة أما اللئيم فسامن بها ** وكرام الناس باد شحوبها

وظاهر كلام أبي حيان أنه مقيس. وقيل إنه لمشابهة (تارك). ومنه يعلم أن المشاكلة قد تكون حقيقة- كذا في العناية. اهـ.

.قال صاحب الميزان:

قوله تعالى: {فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك} إلى آخر الآية، لما كانت رساله النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما أيدت به من القرآن الكريم والآيات البينات والحجج والبراهين مما لا يسع لذى عقل إنكارها ولا لانسان صحيح المشاعر ردها والكفر بها كان ما حكى من كفر الكافرين وإنكار المشركين أمرا مستبعدا بحسب الطبع، وإذا كان وقوع أمر على صفة من الصفات مستبعدا أخد الإنسان في تقرير ذلك الأمر من غير مجرى الاستبعاد طلبا للمخرج من نسبة الوقوع إلى ما يستبعده الطبع.
ولما كان المقام في الآية الكريمة هذا المقام وكان ما حكاه الله سبحانه من كفر المنكرين وإنكار المشركين لما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليهم من الحق الصريح وما أنزل إليه من كلام الله تعالى مع ما يتلوه من البينات والحجج مما لا ينبغى أن يذعن به لبعده طبعا بين تعالى لذلك وجها بعد وجه على سبيل الترجي فقال: {ولعلك تارك بعض ما يوحى اليك} إلخ، {أم يقولون افتراه} إلخ.
فكأنه قيل: من المستبعد أن تهديهم إلى الحق الواضح ويسمعوا منك كلامي ثم لا يستجيبوا دعوتك ويكفروا بالحق بعد وضوحه فلعلك تارك بعض ما يوحى اليك وغير داعيهم إليه ولذلك جبهوك بالانكار أم يقولون إن القرآن ليس من كلام الله بل هو افتراء افتريته على الله ولذلك لم يؤمنوا به.